ما الذي رسمته حضرموت في خريطة اليمن الجديد؟
الرأي الثالث
منذ أن وصل الضابط رشاد العليمي إلى رأس السلطة في اليمن وهو يؤكد بأن هدفه استعادة صنعاء سلماً أو حرباً،
إلا أن أربعة أعوام في عهد الرجل لم تكن كافية للوصول إلى هذا المبتغى الذي ينتظره اليمنيون، ليصحو أخيراً على مشكلة جديدة في خاصرة نفوذه الشرقي تتمثل بتمدد قوات "المجلس الانتقالي الجنوبي" إلى محافظتي حضرموت والمهرة اللتين تشكلان نحو نصف مساحة البلاد المغبونة بالصراع والمهددة بالانقسام والتشظي.
تصعيد الـ10 أيام الماضية فتح باباً جديداً لريح الشقاق والتباين في بيت الشرعية في ظل ما يتهدد بناءه الركيك وسط تطلعات شعبية لامستها الخيبة، في حين يتهم مجلس القيادة الرئاسي الذي يترأسه العليمي وينوبه سبعة آخرون
من ضمنهم زعيم المجلس الانتقالي عيدروس الزبيدي، لتكريس جهوده في توسيع نفوذ أعضائه وقواهم السياسية التي جاءوا منها بمعزل عن مصالح الشعب اليمني ومعاناته المتفاقمة.
توحي التطورات الأخيرة أن الساحة اليمنية مقبلة على منعطف تتقاطع فيه التحركات المحلية مع رسائل دولية وإقليمية غير مسبوقة في حدتها
عقب بسط قوات "الانتقالي" سيطرتها على مناطق واسعة في الإقليم الشرقي لليمن، بعملية تشبه عملية انتشار كبرى أكثر من كونها مواجهة عسكرية تقليدية في كل من مدن تريم وسيئون والقطن وحورة والخشعة ومطار سيئون والقصر الجمهوري،
بما في ذلك قيادة المنطقة العسكرية الأولى التي يتهم حزب الإصلاح فرع "الإخوان المسلمين" بسيطرته عليها منذ عقود،
إضافة إلى محافظة المهرة المحاذية لكل من سلطنة عمان والسعودية التي دخلها "الانتقالي" بطريقة هادئة توجه سريعاً برفع علم "جمهورية اليمن الديمقراطية" الدولة المعترف بها قبل الوحدة، فوق قمة منفذ شحن الحدودي مع عمان
في إشارة رمزية يحرص "الانتقالي" على تقديمها في كل منطقة يسيطر عليها للإيحاء بتثبيت مشروعه المتمثل بالدولة الجنوبية الموعودة التي دخلت في وحدة طوعية مع شمال اليمن عام 1990.
هذه التطورات، التي قوبلت برفض الرئيس العليمي وحكومته، تعني للشرعية وللسعودية توسع نفوذ "الانتقالي" على مناطق استراتيجية جديدة
لكن وسط قلق أبناء حضرموت "الجنوبية" التي تشهد منذ عامين حال احتقان وتحشيد متصاعد بعد نشر "الانتقالي" قوات "الدعم الأمني" في مناطق الساحل،
وهو ما قوبل باحتجاج محلي خصوصاً من قوات حماية حضرموت وحلف قبائلها بزعامة الشيخ عمرو بن حبريش الذي يدعو إلى إقامة حكم ذاتي للمحافظة.
قال رئيس دائرة الإعلام في حلف قبائل حضرموت، صبري بن مخاشن، إن "الانتقالي" شن عملية "غزو عسكري سعى من خلالها إلى فرض مشروع سياسي بالقوة على أبناء حضرموت الذين يرفضون أي مشاريع بالقوة"، من وجهة نظرهم كمجتمع محلي.
وأضاف بن مخاشن أنهم يسعون "إلى إقامة حكم ذاتي ضمن الجغرافيا اليمنية"، ويعتبر أن نهج "الانتقالي" هو "سلوك يقع خارج نطاق الشرعية الدستورية للدولة،
وعبر عن ذلك رئيس مجلس القيادة الدكتور رشاد العليمي بصورة واضحة، إضافة إلى المجتمع الدولي الذي يرفض هذا السلوك".
وفقاً لحال الشقاق غير المسبوق في أرض العسل والدان، فإن الأيام المقبلة قد تكون محملة بمستجدات حاسمة ليس في حضرموت والمهرة فحسب بل ومستقبل البلاد،
خصوصاً أن هذه القوات والحشود، كما يقول بن مخاشن "باشرت باحتلال المعسكرات ونهب الأراضي والآليات والممتلكات واعتقلت المعارضين،
بينما حضرموت والمهرة مناطق آمنة طوال الحرب، ولديها استقرار نسبي مقارنة بالمناطق التي يسيطر عليها ’الانتقالي‘ التي تعيش حالاً من الفوضى"، في حين يبررها "الانتقالي" "بتثبيت الأمن والاستقرار وقطع شرايين التهريب لقوى الإرهاب".
السعودية... مكانة لا تسمح بالتجاهل
تكتسب هذه المستجدات أهمية محلية وإقليمية واسعة، نظراً إلى المكانة التاريخية والاقتصادية التي تحظى بها محافظة حضرموت، بما يميزها من مواقع نفطية ومنشآت عسكرية وخدمية،
وفي طليعتها مطار سيئون المنفذ الجوي الأبرز للكتلة البشرية القادمة من المحافظات الشمالية والشرقية
إضافة إلى أهمية موقعها بمحاذاة الحدود السعودية التي أوفدت فريقاً أمنياً وعسكرياً في زيارة تؤكد أهمية تحرك الرياض الفوري لاحتواء التصعيد في البلد الجار والمساعدة في تطبيع الأوضاع الأمنية والعسكرية والخدمات.
في محصلة ذلك، يرى مراقبون أن السعودية وهي الداعم الأكبر للحكومة، تمكنت من نزع فتيل التوتر بعدما توصلت لاتفاق يقضي بانسحاب قوات "الانتقالي" وإحلال "قوات درع الوطن" الموالية للحكومة الشرعية
لكن الجزء الأبرز في الاتفاق لم ينفذ بعد ممثلاً بإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه وانسحاب قوات "الانتقالي" إلى المواقع التي تقع تحت يدها في جنوب البلاد.
الباحث السياسي فارس البيل يرى أن هناك رغبة سعودية ملحة لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه مع وجود صعوبة "وما بعد هذه الخطوات لن يكون كما قبلها"
ويعتبر هذه التطورات بأنها "قفز على الاتفاقات والحلول الطبيعية للقضية الجنوبية لوجود اتفاق وطني لقوى الشرعية يقضي بأن حل القضية الجنوبية سيكون عقب استعادة الدولة من قبضة الميليشيات الحوثية،
وكان هناك انفتاح من القوى اليمنية على صيغ الحل للجنوب من دون تعقيدات أو حلول تقليدية".
ومنذ انتشار قوات "الانتقالي" سارعت السعودية إلى اتخاذ موقف معلن يرفض هذه الإجراءات ودعمها وضع صيغ جديدة تحفظ الأمن والاستقرار في حضرموت.
ويتردد الحديث عن ضغط سعودي على "الانتقالي" للانسحاب من المناطق التي سيطر عليها تزامناً مع زيارة قام بها فريق عسكري سعودي وإماراتي إلى عدن التقوا خلالها رئيس المجلس الانتقالي عيدروس الزبيدي، في إطار "وضع الترتيبات والآليات لخروج قوات ’الانتقالي الجنوبي‘ من محافظتي حضرموت والمهرة وتسليم المواقع لقوات درع الوطن"، وفقاً لوسائل إعلام سعودية.
قال نائب رئيس الإعلام بالمجلس الانتقالي الجنوبي منصور صالح إن "مهمة القوات الجنوبية المسلحة تثبيت الأمن والاستقرار ومن ثم تمكين أبناء حضرموت من إدارة مناطقهم اقتصادياً وعسكرياً مع الجاهزية التامة لتغطية أي فراغ أمني".
أُسست قوات درع الوطن عام 2023 وتضم 45 ألف مقاتل بدعم سعودي، وتتبع في قرارها مجلس القيادة الرئاسي اليمني، وأصدر رئيس مجلس القيادة الرئاسي الدكتور رشاد محمد العليمي قراراً في يناير (كانون الثاني) 2023 قضى بإنشائها كقوات "احتياط القائد الأعلى للقوات المسلحة"
وأن يحدد رئيس المجلس الرئاسي "القائد الأعلى" عدد هذه القوات ومهامها ومسرح عملياتها في أمر عملياتي يصدر عنه بقيادة بشير سيف قائد غبير الصبيحي برتبة "عميد".
في المشهد المنتظر لنتائج التدافع بين مشروعي استعادة الدولة الجنوبية وبقاء اليمن موحداً، كما ترى الحكومة الشرعية والمجتمع الدولي،
يقول البيل إن "استعادة الدولة تقع في مصلحة القضية الجنوبية بالدرجة الأولى، لأنه لا يمكن أن تفرض مشروعاً سياسياً من دون أرضية واعتراف دولي وتهيئة مؤسساتية"
وما حدث هو "فرض واقع بالقوة وتسرع غير محسوب وخطوات غير مبررة، بدليل أن حتى المواطنين في تلك المحافظات يرفضون فرض مشروع سياسي بالقوة عليهم، وهو تناقض يمارسه ’الانتقالي‘ الذي يدعي عدم بقائه في وحدة بالقوة مع الشمال".
التعاون الأمني... رسالة للمجتمع الدولي
في روايته الظاهرة، يقدم المجلس الانتقالي نفسه الشريك اليمني الأقوى والأكثر أحقية بنيل ثقة المجتمع الإقليمي والدولي،
سواء في تثبيت الوضع الداخلي أو لمحاربة القوى المصنفة على قوائم الإرهاب كالحوثي و"القاعدة" و"الإخوان المسلمين" والأخيرة ممثلة بحزب الإصلاح النافذ التاريخي في منظومة الحكم اليمنية عقب تحقيق الوحدة بين اليمنين الجنوبي والشمالي عام 1990،
وظهر ذلك جلياً بحديثه المتكرر عن عزمه قطع طرق تهريب السلاح الإيراني إلى الحوثيين عبر صحارى حضرموت والمهرة،
وما يتردد عن تعاون متنامٍ بين ميليشيات الحوثي وحركة الشباب الصومالية على ضفتي خليج عدن، في لغة تنسجم والأجندة الإقليمية والدولية في إطار مكافحة الإرهاب في كل من واشنطن وأبوظبي والرياض،
عززه بالموقف المبدئي الذي يعلنه "الانتقالي" من هذه القوى بعكس باقي المكونات السياسية اليمنية.
يقول منصور صالح إن التطورات التي شهدتها حضرموت أخيراً جاءت في إطار عملية ضرورية كان لا بد من اتخاذها "لتعزيز الأمن والاستقرار في مناطق الوادي والصحراء بمحافظة حضرموت وكذلك محافظة المهرة"،
وهي استجابة لمطالبات ومناشدات أهالي المحافظتين "لبسط الأمن والاستقرار فيهما وإنهاء عوامل الفوضى".
واتهم صالح عناصر المنطقة العسكرية الأولى التي طردوها من حضرموت بأنها شكلت على مدى الأعوام الماضية "ثغرة أمنية خطرة استخدمت ممراً لتهريب السلاح إلى جماعة الحوثي،
كما كانت منطقة لتنامي نشاط التنظيمات الإرهابية إضافة إلى تورط شبكات مرتبطة بها في تهريب المخدرات".
وقال صالح خلال حديثه إلى "اندبندنت عربية" إن نجاح القوات الجنوبية في بسط سيطرتها على المنطقة "أسهم بصورة مباشرة في إغلاق أهم منافذ الفوضى وإحكام السيطرة على خطوط التهريب، مما سينعكس على الأرض بوضوح بتحسن الأمن واتساع نطاق الاستقرار".
مع ما تحمله دعوات الحريصين على حال اليمن خشية انزلاقه النهائي إلى هاوية التشرذم والضياع،
اعتبر القيادي في "الانتقالي" أن "توحيد مسرح العمليات في الجنوب اليوم يشكل عامل قوة ودفع للجبهة المناهضة للجماعات الحوثية وإضعاف لقدرات الجماعات الإرهابية على إعادة بناء شبكاتها أو استغلال الجغرافيا للحركة"،
وفقاً لهذه الرؤية فالقيادة الجنوبية "ماضية في جهودها لتعزيز الأمن وتطوير قدرات القوات العسكرية والأمنية، بما يضمن حماية الجنوب ويعزز الشراكة الإقليمية والدولية في مواجهة الإرهاب والجريمة".
العزل والمستقبل
بالنظر إلى مسرح النفوذ والسيطرة في محافظة حضرموت اليوم في إطار الصراع السياسي المحتدم في اليمن، فهذه المناطق ظلت خارج نفوذ المجلس الانتقالي الذي سبق وبدأ تمدده في المكلا، المركز الإداري للمحافظة الأكبر مساحة في اليمن والغنية بالنفط، ومدن أخرى، وصولاً إلى هضبة حضرموت
باستثناء مواقع لا تزال تحت سيطرة قوات "حماية حضرموت" الموالية لـ"حلف قبائل حضرموت" الذي يتبنى رؤية ذاتية لإدارة المحافظة متخففة من التبعية لأطراف الصراع،
إضافة إلى مدينتي العبر والوديعة على الحدود مع المملكة العربية السعودية، في حين تسيطر ميليشيات الحوثي على العاصمة صنعاء والمحافظات المجاورة لها شمالاً.
ومع ذلك يبدو سياق القراءة العامة لمستقبل هذه الأزمة محفوفاً بأخطار التشرذم والنزاع ما لم تجر تسوية تضع حلولاً واضحة بين أبناء حضرموت والمهرة وقوات "الانتقالي" القادمة من خارجهما.
ويرى مراقبون أنه في حال استمرار زعيم "الانتقالي" عيدروس الزبيدي بالتوسع ورفض التحذيرات التي أطلقتها الحكومة الشرعية ومن خلفها السعودية والمجتمع الدولي،
فقد تدفع إلى عزله سياسياً لما يمثله تصعيده من تهديد حقيقي للمركز السياسي والقانوني للدولة اليمنية وجهود الإصلاحات الاقتصادية التي حققتها حكومة سالم بن بريك خلال الأشهر الماضية، وتطلعات اليمنيين للخلاص من الميليشيات الحوثية وما خلفته من أزمة إنسانية كبرى يكابدها ثلثا السكان.
توفيق الشنواح
صحافي يمني