اليمن … وطن يختزل ودولة تتلاشى!!
لم يعرف تاريخ اليمن مشهداً أشد قسوة مما يعيشه اليوم : قوى داخلية متصارعة، تتناحر على النفوذ والجاه، واليوم تتفق – من حيث لا تشعر – على هدف واحد: إضعاف اليمن، وتجريف هويته، وتمزيق ما تبقى من دولته.
لقد بلغ الأمر حدّ أن يتحول الصراع من خلاف سياسي إلى نزعة انتحارية جماعية، تُسخّر فيها الأطراف المتصارعة كل ما لديها من قوة لتقويض وطنها بايديها، وكأنها فقدت صبر التاريخ وذاكرة الأصل.
فاليمنيون الذين، ملؤوا صفحات التاريخ بالسيادة والعمران، يقفون اليوم أمام مشهد مؤلم:
مكوّنات وسلطات أمر واقع تدّعي تمثيل الشعب، لكنها تتصارع على يمن مُصغَّر، لا على يمنٍ واحد.
كل طرف يريد وطناً على مقاسه، لا وطناً يتسع للجميع.
كل طرف يفاوض من أجل مصالحه الضيقة، لا من أجل مستقبل شعبٍ يعيش على فوّهة الجوع والدمار.
وكل طرف يتوهّم أنه قادر على نفخ الروح في مشروعه الخاص، حتى لو ماتت روح اليمن نفسها.
وما هو أخطر من ذلك أن جواره لا يؤمن بأن يبقى جاره يمنٍ كاملٍ كما عرف.
ولطالما تعامل معه كتهديد، لا كهوية.
كغنيمة، لا ككيان.
فسخّر إمكاناته، لإضعاف الدولة لدى جاره، وتمزيق النسيج الاجتماعي، وتكريس واقعٍ يمكن كل فصيل متناحر "وطنًا صغيرًا" يعلّق فوقه رايته.
لقد استطاع الجوار – بدهاءٍ أو بغفلة – تطويع من معه، واستدراج خصومه، وتحييد القادرين على الإصلاح إلى حد الاستهداف.
فصار الجميع، دون أن يدركوا، أدوات في مشروع واحد:
مشروع تفريغ اليمن من قوته، وتمزيق وحدته، ومنحه لأبنائه كفتات بدلاً من أن يكون وطناً كاملاً.
وإذا تأملت المشهد اليوم، أينما وجّهت نظرك، ستجد أن ما يجري ليس صدفة ولا فوضى عبثية، بل مخطط تتقاطع فيه مصالح دولية خارجية مغ اطماع داخلية:
خارجٌ يريد يمنًا ضعيفًا، مشتتًا، بلا قرار ولا سيادة.
وداخلٌ مُنهَك بالخصومات، يرى في صراعه الضيّق طريقاً إلى النصر، بينما هو يهدم البيت الذي يقف فوقه.
إن الخطر الحقيقي ليس ما يخطّط له الآخرون فحسب، بل ما يفعله اليمنيون بأنفسهم وهم يظنون أنهم ينتصرون.
فقد تلاشى الوطن في خطابهم، وغاب في أولوياتهم، حتى أصبح كل واحد منهم يبحث عن وطنٍ من وطن، ورايةٍ من راية، وجزءٍ من كل.
ويوماً بعد يوم، ما لم يكن ليتحقق لولا هذا التفكك:
وطن يتلاشى، ودولة تُختزل، وشعب يتآكل تحت صراع لا يعرف أين ينتهي.
والأيام بيننا…
فما يُحاك لليمن أكبر مما يبدو، وما يُنفَّذ داخل اليمن أكثر مما يُخطَّط له خارجه.
هل ما زال في البلاد بقية عقل، وبقية صوت، وبقية حق ؟ … حتى يعود اليمن وطناً لا يُقسَّم ولا يُختَزل يعيش في امن وسلام واستقرار وشراكة مع جيرانه.
أ. فيصل أمين أبو راس
دبلوماسي، وسياسي يمني