اليمن سردية وطن بين الماضي الغابر والمستقبل الغامض
كان الزمن في اليمن دائمًا يسير بطريقة غريبة؛ لا يمضي إلى الأمام تمامًا ولا يعود إلى الوراء كما يظن الناس. وكأن الوطن محاصر في دوائر تتكرر، تتبدل فيها الأصوات والوجوه، بينما الألم ذاته يبقى في العمق، ساكنًا، يتنفس بصمت.
وفي الأيام الأخيرة، بدأ المشهد يدور من جديد. حركة غير مكتملة، تصريحات متبادلة، تهدئات غامضة، لقاءات في الخفاء، ووعود تتردد كالأصداء دون أن تُعرف حقيقتها. شيء ما يتحرك… لكن أحدًا لا يعرف أي اتجاه يتخذه الزمن هذه المرة، ولا ما الذي يختبئ خلف هذه السكونية المريبة. تبدو اليمن وكأنها تقف أمام باب نصف مفتوح، لا يُرى ما خلفه.
لكن لا يمكن فهم هذا الباب الجديد دون العودة إلى تلك الطريق الطويلة من الخراب التي قادتنا إليه.
كانت الحكاية دائمًا تبدأ من الجهل. فاليمن لم يسقط فجأة، ولم تبتلعه الفوضى في ليلة واحدة، بل كان أشبه ببيتٍ قديم تتسع فيه الشقوق عامًا بعد آخر، حتى جاء اليوم الذي انهار فيه السقف دفعة واحدة. عاش الناس على الموروث أكثر مما عاشوا على التفكير، واعتمدوا على الأساطير أكثر من اعتمادهم على الحقائق. وفي ظل هذا الغياب، عادت السلالة إلى الواجهة، مثل ظل قديم ظنه الجميع مات، فإذا به يعود محملًا بفكرة التفوق والوصاية.
وفي تلك السنوات، كانت الدولة مجرد اسم، لا حقيقة. مؤسسات بلا كفاءة، جيش بلا عقيدة، اقتصاد بلا روح. وحين وصل الحوثي إلى صنعاء، لم يكن بحاجة إلى أن يقاتل دولة حقيقية؛ بل إلى أن يقطف ما تبقى من وجود هش يحتاج فقط إلى دفعة صغيرة ليسقط.
جاءت الحرب، وطالت… حتى أصبحت جزءًا من تفاصيل اليمني اليومية. نزوح، فقر، تشظٍّ، وبنية اجتماعية تتآكل من الداخل. كأن المجتمع تحطم إلى شظايا صغيرة، كل شظية تسير في اتجاه ومصير مختلف.
ورغم الخراب، رسخ الحوثي نفسه في المشهد. لا كدولة، بل كسُلطة أمر واقع، تحكم بالخوف حين تعجز عن الحكم بالقانون. وفي ظل ذلك، كان الإقليم يعيد ترتيب مصالحه، والعالم يعيد هندسة النفوذ، واليمن يتحول إلى مجرد ورقة على طاولة تفاهمات أكبر منه.
واليوم، يدور المشهد من جديد.تبدلت اللهجة، ونعمت الخطابات، وبدأت تُطرح كلمات مثل السلام والتسوية، لكن النوايا بقيت خلف ستار كثيف. ما يجري قد يكون بداية لمرحلة جديدة، لكنه أيضًا قد يكون إعادة تدوير لأزمات لا تزال حية ومتمددة.
فالبلد—بكل ما فيه—لا يزال يحتاج إلى وعي جديد. يحتاج إلى تعليم، إلى مشروع وطني، إلى تفكيك الطائفية، إلى دولة تُبنى لا تُعاد إنتاجها من رماد الماضي. لأن جذور الأزمة لم تُقتلع بعد؛ الجهل ما زال موجودًا، والسلالة موجودة، والطائفية تتحرك في الظل، والفقر يزداد قسوة.
لهذا، فإن أي تغيير سياسي لن يكون أكثر من قشرة خارجية، طالما أن جوهر الأزمة ما زال كما هو.
وأخيرًا، تقف اليمن اليوم أمام مفترق لا يشبه أي مفترق سابق:
ماضٍ يرفض أن يُدفن، وحاضر غامض، ومستقبل ينتظر من يتجرأ على فتح الباب ورؤية ما خلفه.
اليمن اليوم ليست في حرب كاملة، ولا في سلام كامل… إنها في مساحة رمادية، تتسع لكل الاحتمالات: سلام هش، أزمة جديدة، أو فرصة صغيرة—لكن حقيقية—لميلاد مشروع وطني يليق بشعب أنهكته الدورات المتكررة.
ويبقى السؤال الأكبر:
هل سنجرؤ هذه المرة على كسر الحلقة؟
أم سيدور الزمن بنا مرة أخرى؟